بين ما لا يعود وما يتجدد
بقلم : هلا الخباز
قرأت مرة عبارة فلسفية مفادها أن “الأشياء لا تحدث مرة واحدة فقط”، ومن وقتها وأنا أستمتع بالحياة، وأراقب الأوان وهو يفوت، لأنني على يقين بأن في العمر متسعًا. فلم أعد أبالي بما يسمونه الفرص الضائعة، ولا الفرص التي تمر من جانبي دون أن أنتهزها، ولم أعد أركض للمحطة لألحق بالقطار لأنني على يقين بأنني سأركب القطار التالي. لم أعد أكترث لأقوال الناصحين والمشددين على ضرورة استغلال الفرص قبل أن يفوت الفوت، لكل الذين يعاكسون الرأي السابق، مؤمنين بأن في حياة كل إنسان لحظات تلوح له ثم تمضي، مرددين “الفرصة لا تأتي مرتين”، وكأنها قطار إن غادر لن يعود. لكن هل حقًا الفرص لا تتكرر؟ أم أن الحياة تمنحنا دومًا بدائل، بطرق مختلفة، بأشكال لا نتوقعها؟
يقول جبران خليل جبران: “الفرص تمر مرَّ السحاب، فإن انتهزتها انتفعت بها، وإن ذهبت لم تعد”. هذا التصور يعكس قسوة الزمن وسرعة مروره. لكن في المقابل، يذهب الفيلسوف إريك فروم إلى أن الإنسان “يستطيع أن يخلق فرصه الخاصة عبر وعيه بقدراته واتخاذ قرارات شجاعة”. بين القولين يتأرجح الوعي الإنساني: بين الخوف من ضياع ما لا يُعوَّض، والإيمان بأننا نستطيع أن نعيد صياغة طريقنا. فكم من فرصة ضاعت من بين يديك وندمتَ عليها، لكن بماذا يفيد الندم؟ أصعب ما في الأمر هو أنَّ الفرصة لا تأتي كلَّ يوم، ومع ذلك عندما تأتي إليك تضيعها بسهولة.
إذا كنت تنتظر فرصةً ما، فكن مستعدًا لها كل يوم، فلا تدري متى تأتي، وإذا جاءتك فلا تتردد وتكثر التفكير، فالفرصة لن تنتظرك.. استفد منها قبل أن تندم!
فالندم جزء من الحياة، نندم على الماضي الذي لم نعشه، وعلى المستقبل الذي لن يأتي. لدى الجميع قرار يتمنى لو كان اتخذه أو لم يتخذه، تؤرقه كثرة التفكير فيه، ويحول بينه وبين السعادة والرضا.
علم النفس الاجتماعي يثبت أن الندم على ما لم نفعله أقسى وأطول أثرًا من الندم على ما فعلناه. دراسة نشرتها جامعة كورنيل (Gilovich & Medvec, 1995) بيَّنت أن 84 % من المشاركين شعروا أن أكثر ما يؤلمهم هو الفرص التي لم يغتنموها: وظيفة رفضوها، حبا لم يصرّحوا به، مغامرة لم يخوضوها. أي أن غياب الفعل يترك فراغًا يصعب ملؤه لاحقًا.
ولكنني مؤمنة يا صديقي بأن الحياة ليست ضربة واحدة، بل سلسلة محاولات وتجارب، وأن الإنسان لا يجب أن يعيش تحت ضغط الفرصة الوحيدة التي تمنعه من الاستمتاع بالموجود، ومن القبول بأي شيء تحت تلك الذريعة.
كثيرًا ما نعيش تحت ضغط داخلي يوهمنا أن ما أمامنا هو الفرصة الأخيرة، فنمارس على أنفسنا قسوة وقلقًا مبالغًا فيهما. لكن الدراسات في علم النفس الإيجابي (Snyder & Lopez, 2002) تشير إلى أن الإنسان الذي يؤمن بوجود فرص بديلة يكون أكثر قدرة على التعافي من الإخفاق وأقل عرضة للندم المرضي.
إذا ليست كل الفرص نهائية، وليست الحياة بابًا يُغلق مرة واحدة. يقول نيتشه: “الحياة لا تنتهي عند تجربة واحدة، بل هي فرص متجددة لمن يجرؤ على النظر للأمام”، كما كتب الروائي ميلان كونديرا: “الإنسان لا يعيش مرة واحدة فقط، ولا ينبغي أن يتعامل مع حياته كمسودة لن تتكرر”.
هذه الرؤية تدعونا إلى التحرر من وهم القطار الوحيد، والتعامل مع الحياة كسلسلة قطارات تمر باستمرار، بعضها يفوتنا، لكن غيره قادم. ما نخسره اليوم قد يعود غدًا في شكل آخر، وربما يكون أكثر ملاءمة لنضجنا.
من منظور فلسفي، قد لا تتكرر الفرص بذاتها، لكنها قد تعود بأشكال أخرى. فقد لا تعود نفس الوظيفة، لكن قد يظهر مشروع يلبي نفس طموحك.. هنا يُختبر استعدادنا الداخلي: هل نتعلم من الفرص التي ضاعت؟ أم نغرق في اجترارها حتى نعجز عن رؤية الجديد؟
الفرص الضائعة ليست نهاية، بل هي جزء من هندسة الحياة. يقول الروائي الفرنسي مارسيل بروست: “إننا لا نتغير حين نغتنم الفرص، بل حين نندم على ضياعها”.
فالفرصة ليست حدثًا خارجيًا فحسب، بل هي قدرة داخلية على الالتقاط، وإن كان الماضي لا يعود، فالحاضر دومًا يتجدد.
*كاتبة ومستشارة في العلاقات العامة وصناعة الصورة الذهنية