مقالات وكتاب

غربة الروح بعد الستين… وظلم ذوي القربى

بقلم ــ مرزوق بن علي الزهراني

 

في زحمة الحياة، حيث تتزاحم السنوات كما تتزاحم الهموم، يمضي الإنسان في رحلته كجندي صامت في معركة طويلة… معركة الوجود. يخوض الحروب الكبرى في عمر الصبا والشباب، يكابر على الجراح، ويضحك في وجه الألم كي لا يرى من حوله ضعفه. تمر عليه الخيبات كما تمر الريح على الوجوه، يلوذ بالأمل حينًا، وبالوحدة أحيانًا، لكنه يمضي… يمضي كأن لا نهاية، كأن التعب لا يعترف بانكساره.

لكن ما إن يبلغ المرء الستين، حتى تبدأ الروح تئن بصوتٍ لا يسمعه أحد. ليس لأنها واهنة، بل لأنها أصبحت ترى الأشياء على حقيقتها، دون زينةٍ أو رتوش. يصبح الصمت أكثر بلاغة من الكلام، والخذلان أعمق من الجراح. عند الستين، لا تعود الأوجاع هي تلك التي تصيب الجسد، بل تصبح تلك التي تنخر الروح من الداخل، دون ضجيج.

غربة الروح في هذه المرحلة ليست غربة مكان، بل غربة إحساس، غربة دفء، غربة من كانوا يومًا قريبين جدًا حتى حسبناهم جزءًا من نبض القلب. إنها غربة بين الأهل والأبناء، بين الأحفاد والجدران التي شهدت أعوام البذل والعطاء. إنها غربة في البيت الذي كان يعج يومًا بالصراخ والضحك، وصار اليوم موطنًا للصمت والانتظار.

الستين، وما بعدها، مرحلة من فراغٍ داخلي مخيف، حين تكتشف أن من كنت لهم سندًا قد تخلوا عنك، وأن من غرست فيهم الحب، حصدوا من قلبك ثم تركوه يذبل. وليس أقسى على الروح من أن تُظلم ممن عرفتهم يومًا بأقرب الأقربين. كيف لا،
و”ظُلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً
على النفسِ من وقعِ الحُسامِ المُهنَّدِ”؟
ذلك لأنك لا تتوقع الغدر ممن حملتَ عنهم عبء الأيام، وسهرتَ لراحتهم، وذبتَ في وجودهم حبًّا ورعاية.

في هذا العمر، تصبح الروح كالطفل الصغير، تحتاج لمن يربت على كتفها، لمن يقول لها: “ما زلت مهمًا… ما زلت محبوبًا… نحن هنا.” لكنها – في كثير من الأحيان – لا تجد سوى الجدران الصامتة، ووجوه اعتادت الغياب. وهنا، تبدأ الأرواح في التلاشي البطيء، ليس موتًا، بل انسحابًا حزينًا من الحياة، وكأنها تودع بصمتٍ من أحبّت يومًا.

ولعل أكثر ما يؤلم في ظلم القربى، أنه لا يأتي دفعة واحدة، بل يأتي على هيئة تجاهل يومي، ونسيان مقصود، وكلمات ثقيلة، ونظرات باهتة. يأتي حين يصبح الكبير عبئًا لا يُحتمل، بدلًا من أن يكون تاجًا على الرؤوس. ويأتي حين يُمنح الغرباء الحنان، ويُحرم القريب منه وكأنه لم يكن يومًا سببًا في قيام هذه الحياة.

فيا لغرابة هذه الدنيا… يُربّي المرء أبناءه ليكونوا له عزاء الشيخوخة، فإذا به يكتشف أن عزاءه الحقيقي هو في الكتب، أو الذكريات، أو في صلاةٍ طويلة يسكب فيها وجعه أمام من لا يظلم عنده أحد.

غربة الروح بعد الستين ليست قدَرًا، بل هي نداء للقلوب أن تعود إلى إنسانيتها، أن تتذكر من كانوا يومًا السند، أن ترد الجميل ولو بابتسامة، بحنان، بزيارة، بكلمة تُحيي القلب قبل أن يتوقف.

فلا تتركوا الأرواح تتغرّب في أوطانها… ولا تظلموا مَن لا سلاح له سوى الحب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى