مقالات وكتاب

السعادة في ثوب آخر

بقلم ــ هلا الخباز

 

بحسب عداد جهازي المحمول، أمضي يوميًا ساعة وأربعين دقيقة في تصفح موقع تيك توك. وبين ما هو مفيد، وبين ما يثير استيائي واستغرابي، وبين ما يؤثر بي ويلمسني شخصيًا، مررت بمقطع عن الفنانة يسرا، درس في الرضا وتحديدًا فيما يتعلق بأمومتها، وبلا دخول في التفاصيل، ختموا المقطع بهذا السؤال: هل الرضا يشفي من الفقد؟
الغريب في الأمر أن المقطع ظهر لي بعد مروري بلحظة فقد عميقة تحتاج الكثير من التسليم أو ما نسميه الرضا.، يبدو أن الذكاء الاصطناعي لم يعد يسمعنا، أصبح يشعر بنا أيضًا.
لكن.. هل الرضا هو الوجه الآخر للسعادة؟ أم أنه مجرد غطاء ناعم يخفّف قسوة الألم دون أن يلغيه؟
الرضا ليس لحظة عابرة من القبول، بل هو حالة وجودية، ولكنني أرفض أن أربطها بالسعادة، فهما شيئان مختلفان.. مختلفان تمامًا. الرضا ليس رديفًا للسعادة، بل هو “حيلة العارف” حين يعجز عن نيل ما يريد. كما يقول عبدالرحمن المنيف: “أحيانًا يكون الرضا شكلًا من أشكال المقاومة، حين نقرر أن لا شيء قادر على كسرنا”. يظنّ الناس أن الرضا هو شكلٌ آخر من السعادة، نسخة هادئة منها حين لا يتحقق ما نريد. لكن الحقيقة أن الرضا ليس بديلًا عن السعادة، بل هو وعيٌ مختلف بالحياة، أعمق من الفرح، وأصدق من النشوة. الرضا لا يأتي حين نربح، بل حين نخسر ولا ننهار، حينما نقول لأنفسنا في أقسى اللحظات: “الحمد لله”.
الرضا ليس انطفاء الرغبة ولا ضعف الإرادة، بل هو وعيٌ عميق بأننا لا نملك التحكم في مجريات الحياة كما نظن، وأن ما يحدث لنا ليس عبثًا، بل جزء من قصة أكبر لا نراها كاملة بعد.
تقول إيزابيل الليندي: “الرضا لا يعني غياب الرغبة، بل هو وعي بأن ما تملكه الآن كان يومًا ما حلمك”. علم النفس الإيجابي يصف الرضا بأنه أحد أعمدة “الرفاه المستدام”، إذ لا يعتمد على المؤثرات الخارجية كالسعادة، بل على التوازن الداخلي بين التوقعات والواقع، بين الطموح والقبول، بين “أريد” و”يكفيني”.
فالرضا لا يُلغِي الطموح، بل يُهذّبه. يجعل الإنسان يسعى دون أن يتألم من النتيجة، يحب دون أن يتملك، وينتظر دون أن ينهار. الرضا هنا ليس إنكارًا للألم، بل تطويعٌ له، أن نحوله من طاقة وجع إلى طاقة بصيرة. يقول جبران خليل جبران: “الرضا ليس ضعفًا، بل قوةٌ لا يُدركها إلا من مرّ بالخذلان ولم ينكسر”.
فالفقد جزء من تدريب الروح على الفهم، والرضا طريقها نحو السلام الداخلي لا نحو النسيان. الفقد لا يُشفى، بل يُسكن في القلب بطريقة مختلفة، يخفت وجعه، لكنّه لا يغيب. الرضا لا يُنهي الحنين، بل يروّضه حتى لا ينهشنا كل يوم.
الرضا شعور داخلي بالاكتمال رغم النقص. الرضا لا يُلغي الفقد، لكنه يحوّله من جرحٍ مفتوح إلى ندبةٍ ناعمة. الفقد جزء من التجربة الإنسانية، والرضا هو ما يجعلنا نتعايش معه لا أن ننكره. الرضا ليس أن نكفّ عن الحلم، بل أن نحلم ونحن نعرف أن الحياة لن تُعطينا كل شيء — ومع ذلك، مازلنا نحبها.
يقول باولو كويلو: “الفقد لا يُشفى بالنسيان، بل بالسلام مع ما لا يمكن تغييره”.
السعادة قد تأتي بصخب، أما الرضا فيأتي بصمت. السعادة تحتاج سببًا، الرضا لا يحتاج سوى إيمانٍ عميق بأن كل ما يحدث له حكمة. الرضا ليس دواءً للفقد، ولا بديلًا عن السعادة، بل هو جسرٌ بينهما، جسرٌ من نورٍ هادئ يمرّ عليه القلب بعد أن يتعب من الصراع. يقول فيكتور هوغو: “الرضا هو أعمق أشكال القوة، لأنه يعني أنك توقفت عن الصراع مع ما لا يمكنك تغييره”.
القبول لا يعني اللامبالاة، بل الإيمان بأن كل شيء يحدث في وقته، حتى الألم. كما تقول الكاتبة الأميركية إليزابيث غيلبرت: “ليس عليك أن تتجاوز الحزن، بل أن تتعلم كيف تمشي معه دون أن تفقد توازنك”.
فحين نرضى، لا ننسى ما فقدنا، ولا نُغلق باب الحلم، بل نختار أن نعيش بسلام مع ما كان، وأمل بما سيكون.

كاتبة ومستشارة في العلاقات العامة وصناعة الصورة الذهنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى