عندما يُقصى معلم الخبرة وتُختزل الطفولة في التخصص
بقلم : مرزوق بنرعلي الزهراني
في خطوة أثارت كثيرًا من الجدل في الميدان التربوي، صدر القرار القاضي بمنع أي معلم أو معلمة لا يحمل تخصص ذو صلة بمقرر “لغتي” أو “الرياضيات” أو “العلوم” من تدريس هذه المقررات في المرحلة الابتدائية، وذلك بغض النظر عن خبرته أو كفاءته أو علاقته المتينة بطلابه، وهو قرار يحمل في طياته نية إصلاحية من حيث الظاهر، لكنه من حيث الأثر التربوي والعملي أثار أسئلة جوهرية، وترك خلفه مشهدًا من القلق والإرباك في مدارس المرحلة الابتدائية، خاصة في الصفوف الأولية التي تتطلب خصوصية مختلفة تمامًا عن بقية المراحل.
لا أحد يجادل في أهمية التخصص، ولا في ضرورة أن تُدرس العلوم من قبل أهلها، وأن يتولى تدريس اللغة من يملك أدواتها، لكنّ التعليم ليس عملية ميكانيكية يتم فيها ضخ المعلومة من رأس المتخصص إلى ذهن الطالب، بل هو علاقة إنسانية، وجدانية، تراكمية، خصوصًا في سنوات التكوين الأولى. وهنا تكمن معضلة القرار.
فالصفوف الأولية لا تحتاج إلى “معلم مادة”، بقدر ما تحتاج إلى “معلم حياة” يرافق الطفل، يقرأ احتياجاته، ويؤمن معه علاقة طويلة مبنية على الثقة والألفة والانتماء. إن المعلم في الصفوف الأولية ليس مجرد ناقل معرفة، بل هو وجه الطمأنينة الأول، وصوت النظام الأول، والقدوة السلوكية الأولى. أن يُفصل الطفل في هذه المرحلة عن معلمه، أو يُقطع تواصله المتدرج معه من عام إلى عام، هو أشبه ما يكون بكسر متعمد لسياق التعلم الآمن.
لقد وجدنا أنفسنا أمام مفارقة صادمة: معلم قضى سنوات طويلة في تدريس الصفوف الأولية، بنى فيها خبرة عميقة، وفهمًا دقيقًا لنفسيات الأطفال، وتمكّن من قيادة فصله بمرونة وتوازن، يُستبعد فجأة من أداء دوره لأنه لا يحمل مؤهلًا “متخصصًا”، بينما يُستبدل به معلم آخر، قد يكون حديث عهد بالتعليم، أو يفتقر للمهارات الصفية، أو لم يُكوَّن بعد للتعامل مع بيئة الطفولة المبكرة، لكنه يملك الورقة المطلوبة!
وهنا ليس الطعن في كفاءة المعلم المتخصص، بل في المنهجية التي تختزل التعليم في التخصص، وتتناسى المعطى التربوي والنفسي والاجتماعي، وخصوصًا في مرحلة شديدة الحساسية مثل الصفوف الأولية. فالمعلم هنا لا يقدم محتوى فقط، بل يؤسس للغة التفكير، ويغرس البذور الأولى في شخصية الطالب، ويُشكّل انطباعه الأول عن المدرسة والتعليم.
القرار، وإن استند إلى رؤية تطويرية، إلا أنه تجاهل أمرين أساسيين: أولهما أن التخصص لا يعني التمكن التربوي، وثانيهما أن التعليم في هذه المرحلة يجب أن يُبنى على “التدرج العاطفي والمعرفي”، لا على التقسيم المهني الجامد. لقد أدخلنا متخصصين إلى الفصول، لكننا أخرجنا الألفة، والانتماء، والاستقرار، وهذا ثمن قد يكون باهظًا في مستقبل تعلم الطالب.
نعم، نحتاج إلى معلمين متخصصين، ولكننا أيضًا نحتاج إلى بيئة تعليمية مستقرة، وإلى معلم مؤهل نفسيًا وتربويًا، يفهم لغة الأطفال ويجيد التعامل معهم، لا فقط مع المادة. وكان الأولى أن يُعاد تأهيل معلم الفصل، لا أن يُقصى ويُستبدل، وكأن خبرته لا وزن لها. فالمعلم الذي قضى سنوات في الصفوف الأولية يمتلك من الفهم العميق لنفسيات التلاميذ، وأساليب التعامل معهم، ما لا يُكتسب في برامج التخصص الجامعي وحدها. إن الاستثمار الحقيقي في جودة التعليم يبدأ من بناء المعلم، لا بإقصائه.
وتأسيسًا على ما سبق، فإن الرغبة في تحسين مخرجات التعليم لا يجب أن تُترجم إلى قرارات تفصل الطالب عن معلمه، وتُجزئ التعلم إلى قوالب جامدة. الصفوف الأولية لا تحتاج فقط إلى “معلم مادة”، بل إلى “معلم علاقة”… إلى معلم يتطور لا يُقصى، يُؤهَّل لا يُستبدل. وهذه الحقيقة يجب أن تكون حاضرة في كل قرار يُتخذ باسم جودة التعليم.