مقالات وكتاب

العاصفة التي تسبق الصفاء


بقلم هلا الخباز

تغييرات بسيطة أجريتها في مكان عملي، أثرت إيجاباً على بيئة العمل وأدائنا كفريق، تغيير بسيط غير مكلف كان كفيلاً بأن يغير أمزجتنا وطاقتنا. وتوقفت للحظة، التغيير مفيد في كل الحالات سواء ما نُدفع إليه بحكم القدر أو ما نذهب إليه بملء إرادتنا. فهناك لحظة في حياة كل إنسان يدرك فيها أن لا شيء يبقى كما هو، أو أنه لا يجب أن يبقى كما هو. الأماكن التي احتضنتنا ذات صباح، الوجوه التي كانت تملأ أيامنا بالحديث، التفاصيل الصغيرة التي كانت تمنحنا شعور الأمان، جميعها تنزاح شيئاً فشيئاً من المشهد، تاركة وراءها الذكرى ورائحة الماضي.
يقول الفيلسوف هيراقليطس “لا يمكنك أن تخوض النهر مرتين، لأن الماء الذي جرى فيه قد تغير وأنت أيضاً تغيرت”، وهذه الحقيقة تختصر فلسفة التبدل، فالتغيير لا يصيب المكان وحده، بل يمتد إلى دواخلنا أيضاً، فيعيد ترتيب أفكارنا، ويكشف لنا عن مناطق في النفس لم نكن نعرفها. المكان ليس مجرد جدران وسقف، بل ذاكرة صامتة تحفظ آثار أقدامنا الأولى، ضحكاتنا، وحتى صمتنا. وعندما نغادره، نترك خلفنا ظلاً منا، لكنه في المقابل يترك فينا أثراً لا يُمحى. هناك لحظات نشعر فيها أن الكون يهمس لنا: تقدم، لا شيء سيحدث مادمت في الموضع ذاته، فالتغيير يبدأ غالباً من خطوة صغيرة على عتبة جديدة، خطوة تفتح باباً لحظ مختلف، لنسخة أخرى من أنفسنا كانت تنتظر أن تُستدعى إلى الحياة، فالتغيير تمرين على مغادرة العتبات القديمة التي لم تعد تُشبهنا.
وفي الأثر المتداول “غير عتبتك يتغير حظك”، وليس المقصود المكان فقط، بل عتبة التفكير، وعتبة القلب، وعتبة العلاقات، فمادام الإنسان يطرق الباب ذاته، سيسمع الصدى ذاته. الحظ يزور من يجرؤ على تحريك قدميه فوق عتبة جديدة. حين نغادر بيتاً أحببناه أو روحاً سكنتنا أكثر مما سكنّاها، نترك خلفنا جزءاً من ذواتنا، كمن يترك صفحة من مذكراته مفتوحة للمقبلين. الكاتب الفرنسي مارسيل بروست عبّر عن ذلك بقوله “المكان الذي نحبه لا يغادرنا، بل يظل يسكن فينا بوجوه مختلفة”، إنه تجديد للطاقة، واستدعاء لحظ جديد، كما لو أن الأرض تُكافئ من يتحرك بشجاعة بخطوة غير متوقعة على عتبة غير مألوفة. إن تغيير المكان يختبر ذاكرتنا العاطفية، يحرّك فينا الحنين، لكنه أيضاً يفتح لنا نافذة على أفق جديد، يذكرنا بأننا لسنا أشجاراً بل بشراً خُلقنا للحركة والاكتشاف.
وماذا عن تبدل الأشخاص في حياتنا يا صديقي؟ هو من أكثر الأمور إيلاماً وغموضاً، فنحن نظن أن الآخرين قد تغيروا، لكننا نكتشف لاحقاً أننا نحن الذين لم نعد ننتمي إلى السياق نفسه. يقول جبران خليل جبران “ما أغرب الإنسان، يهرب من نفسه ولا يستطيع، ويهرب من الناس فيجد نفسه”. إن التبدل في العلاقات ليس بالضرورة خيانة أو فقداناً، بل تطورا في التردد العاطفي بين من يبقون ومن يرحلون. حين يتغير الأشخاص، يتغير جزء من الحكاية التي نرويها عن أنفسنا. نكتشف أننا كنا نحب انعكاسنا فيهم أكثر مما أحببناهم، وأن غيابهم فرصة لإعادة تعريف ذواتنا بعيداً عن المرايا القديمة. قد يبدو التغيير في البداية موجعاً، لكنه في عمقه ولادة جديدة. كما قال فريدريك نيتشه: “يجب أن تحمل في داخلك فوضى لتلد نجمة راقصة”. فكل تجربة تغيير مهما كانت صعبة تُعيد تشكيل وعينا وتمنحنا قوة خفية لم نكن ندركها. وفي هذا الموضع كتب باولو كويلو: “عندما تجرؤ على ترك ما اعتدت عليه، ستبدأ في رؤية المعجزات التي كانت تنتظرك”. عندما تتبدل العتبات نُجبر على الإصغاء إلى أنفسنا أكثر، على إعادة بناء توازننا الداخلي. ومع مرور الوقت، نكتشف أن أكثر الأماكن أماناً ليست المدن ولا الأرواح، بل المساحة التي نصنعها داخلنا دون رتوش أو تبرير.
التغيير ليس خسارة، بل عبورا، فلكل مرحلة أشخاصها، ولكل عتبة رفاقها المؤقتون الذين يظهرون ليُعدّونا للخطوة التالية ثم يختفون عندما يحين وقت التغيير.

كاتبة ومستشارة في العلاقات العامة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى