فن التغيير المؤسسي: كيف تقود المؤسسات نحو المستقبل

الإعلامي والصحفي: محمد آل ضعين
عضو هيئة الصحفيين السعوديين
في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها عالم الأعمال، لم تعد المؤسسات تعمل في بيئة مستقرة أو تقليدية، بل أصبحت محاطة بتغيرات متلاحقة تشمل التكنولوجيا، والحوكمة، وتوقعات المستفيدين، وسوق العمل. وفي هذا السياق، تبرز إدارة التغيير المؤسسي كأحد أهم المرتكزات الاستراتيجية التي تمكّن المؤسسات من التكيف مع المتغيرات، وضمان الاستدامة، وتحقيق التفوق المؤسسي.
تشير إدارة التغيير المؤسسي إلى منهجية منظمة تهدف إلى التخطيط والتحكم في عمليات التحول داخل المؤسسة، سواء كانت تحولات تنظيمية، أو تقنية، أو ثقافية، أو تشغيلية. ولا يقتصر التغيير على تعديل الهياكل أو الإجراءات، بل يمتد ليشمل سلوكيات الأفراد، وثقافة العمل، ونمط القيادة. وقد أكدت الأدبيات الإدارية أن فشل العديد من المبادرات الاستراتيجية لا يعود إلى ضعف الفكرة، بل إلى سوء إدارة التغيير المصاحب لها.
ومن النماذج العلمية البارزة في هذا المجال، نموذج كوتر (Kotter’s 8 Steps for Change)، الذي يوضح أن نجاح التغيير يتطلب المرور بمراحل متسلسلة تبدأ بخلق الإحساس بالحاجة إلى التغيير، مرورًا ببناء تحالف قيادي داعم، ووضع رؤية واضحة، وانتهاءً بترسيخ التغيير في الثقافة المؤسسية. كما يبرز نموذج لوين (Lewin’s Change Model) الذي يقسم التغيير إلى ثلاث مراحل رئيسية: فك الجمود، التغيير، ثم إعادة التجميد، مؤكدًا على أهمية تهيئة البيئة التنظيمية قبل تنفيذ أي تحول.
وتُعد إدارة مقاومة التغيير من أبرز التحديات التي تواجه المؤسسات، حيث يميل الأفراد بطبيعتهم إلى الاستقرار والخوف من المجهول. وهنا يأتي دور التواصل الفعّال كأحد الركائز الأساسية لنجاح التغيير المؤسسي. فكلما كان الموظفون على دراية بأسباب التغيير وأهدافه وآثاره المتوقعة، زادت فرص تقبلهم له والمشاركة الإيجابية في تنفيذه. كما أن إشراك الموظفين في مراحل التخطيط وصنع القرار يعزز الشعور بالملكية والمسؤولية تجاه التغيير.
إلى جانب ذلك، يُعد التدريب المستمر وتطوير القدرات عنصرًا محوريًا في إدارة التغيير، خصوصًا في التحولات التقنية والتحول الرقمي. فالتغيير دون تمكين الموظفين بالمهارات والمعرفة اللازمة يؤدي إلى فجوة بين التصميم والتطبيق. وقد أثبتت التجارب المؤسسية أن الاستثمار في رأس المال البشري هو الضامن الحقيقي لاستدامة أي تحول.
وتلعب الثقافة المؤسسية دورًا حاسمًا في إنجاح أو إفشال التغيير. فالمؤسسات التي تتبنى ثقافة مرنة تشجع التعلم المستمر، والابتكار، والتجربة المدروسة، تكون أكثر قدرة على التكيف مع المتغيرات. في المقابل، تعاني المؤسسات ذات الثقافة الجامدة من بطء الاستجابة وارتفاع مقاومة التغيير. كما أن القيادة الرشيدة، التي تتسم بالوضوح، والقدوة، والشفافية، تعد العامل الفاصل في توجيه المؤسسة نحو التحول المنشود.
وعلى المستوى المحلي، تبرز أهمية إدارة التغيير المؤسسي في سياق رؤية المملكة العربية السعودية 2030، التي تقود تحولات شاملة في القطاعات الحكومية والخاصة، بما في ذلك التحول الرقمي، ورفع كفاءة الأداء، وتعزيز الحوكمة، وتحسين جودة الخدمات. وقد أظهرت التجارب أن الجهات التي تبنت منهجيات واضحة لإدارة التغيير كانت أكثر نجاحًا في تحقيق مستهدفات التحول مقارنة بتلك التي ركزت على التغيير الهيكلي دون الاهتمام بالجوانب البشرية والثقافية.
وفي الختام، يمكن القول إن إدارة التغيير المؤسسي ليست مجرد مجموعة أدوات أو إجراءات تنفيذية، بل هي فن استراتيجي متكامل يجمع بين العلم والممارسة، ويوازن بين الأهداف التنظيمية واحتياجات الأفراد. فالمؤسسات التي تتقن هذا الفن لا تكتفي بمواجهة التغيير، بل توظفه كرافعة للنمو والابتكار والتميز. إن فن التغيير المؤسسي هو المفتاح الحقيقي الذي يمكّن المؤسسات من قيادة المستقبل بثقة، وتحقيق الاستدامة في بيئة تنافسية متغيرة.




