مقالات وكتاب

بين المسافر والسائح: رؤية »تشيسترتون« ومعنى السفر الحقيقي

بقلم: الرحالة الإعلامي محمود النشيط

المقولة أعلاه إلى الأديب الشهير والفيلسوف الإنجليزي ج. ك. تشيسترتون وهي ليست مجرد تمييز لغوي بين كلمتي »المسافر« و»السائح«، بل هي توصيف عميق لطريقتين مختلفتين في إدراك العالم وخوض تجربة السفر. فهي تضعنا أمام سؤال جوهري: هل نسافر لاكتشاف المكان كما هو، أم لاستهلاك الصورة التي رسمناها عنه مسبقًا؟

يرى تشيسترتون أن المسافر يدخل المكان بذهن مفتوح، دون أن يُقيّد نفسه بتوقعات جاهزة. فهو يلاحظ التفاصيل الصغيرة، ويتفاعل مع الناس، ويعيش إيقاع الحياة اليومية، فيرى الواقع كما هو، لا كما يُعرض له. أما السائح، فيسافر غالبًا وهو محمّل بصورة ذهنية مسبقة، صنعتها الإعلانات السياحية وبرامج الرحلات ووسائل التواصل الاجتماعي، فيبحث عمّا جاء ليراه فقط، متجاهلًا ما عداه.

من منظور علم النفس الإدراكي، تعكس هذه الفكرة ما يُعرف »بـالتحيز التأكيدي«، حيث يميل الإنسان إلى رؤية ما يؤكد توقعاته السابقة. فالسائح، في كثير من الأحيان، لا يختبر المكان بقدر ما يسعى إلى مطابقة تجربته مع الصورة المخزّنة في ذهنه، بينما يسمح المسافر لتجربته بأن تعيد تشكيل فهمه للمكان والثقافة.

وفي السياق السياحي المعاصر، تحولت السياحة إلى صناعة عالمية ضخمة تُسوَّق فيها المدن والدول كمنتجات جاهزة. تُحدَّد المعالم مسبقًا، وتُختصر التجربة في مسارات سريعة وصور تذكارية. هنا، تصبح الرحلة أقرب إلى مشاهدة منظمة، لا إلى تجربة إنسانية عميقة. هذا النمط لا يتيح للزائر سوى رؤية واجهة المكان، دون النفاذ إلى روحه الثقافية والاجتماعية.

لا يعني ذلك أن تشيسترتون يهاجم السياحة أو يقلل من أهميتها الاقتصادية والثقافية، بل يوجه نقدًا ناعمًا لسطحية بعض ممارساتها، حين يُختزل المكان في لقطات، والثقافة في عروض، والإنسان في دور مُعدّ سلفًا لإرضاء الزائر. فالمشكلة ليست في السفر، بل في طريقة ممارسته.

وتبرز أهمية هذه المقولة اليوم مع تصاعد الدعوات إلى السياحة المستدامة في الوطن العربي، التي تسعى إلى تحقيق توازن بين العائد الاقتصادي، والحفاظ على الهوية الثقافية، وحماية الموارد الطبيعية. فالسياحة المستدامة تشجع على التفاعل الحقيقي مع المجتمع المحلي، واحترام الخصوصية الثقافية، والخروج من المسارات التقليدية التي تستهلك المكان ولا تطوره. وهي سياحة تسعى إلى تحويل السائح إلى مشارك، لا مجرد مشاهد، وإلى بناء علاقة متوازنة بين الزائر والمكان.

في المحصلة، تضعنا مقولة تشيسترتون أمام مرآة فكرية صادقة، تكتسب معناها بوضوح في السياق العربي: هل نريد من السياحة أن تكون تأكيدًا لصور جاهزة تُسوَّق بسرعة، أم فرصة حقيقية لبناء وعي سياحي يحفظ المكان ويخدم الإنسان ويعزز التنمية المستدامة؟ إنها دعوة للانتقال من استهلاك المكان إلى معايشته، ومن السياحة العابرة إلى السفر الواعي، حيث تبدأ الرحلة الحقيقية.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى