مقالات وكتاب

التعليم المدمج: ضرورة معاصرة تبدأ بعد التأسيس الحقيقي

بقلم: مرزوق بن علي الزهراني

في عالم تتسارع فيه إيقاعات المعرفة وتتشابك فيه أدوات التعلم والتواصل، لم يعد التعليم المدمج خيارًا يمكن تأجيله أو التعامل معه بوصفه ترفًا تقنيًا؛ بل أصبح استجابة طبيعية، بل حتمية، لواقع إنساني وتربوي جديد. إنه ليس مجرد جمع آلي بين التعليم الحضوري والتعلم الإلكتروني، بل هو تحول في فلسفة التعليم، وإعادة صياغة لدور كل من الطالب والمعلم، ولموقع المدرسة في العصر الرقمي.

ففي هذا الأنموذج التكاملي، تلتقي مزايا التعليم التقليدي بمرونة وابتكار التعلم الإلكتروني، لتنتج بيئة تعليمية أكثر تفاعلية وفعالية، تُراعي الفروق الفردية، وتُحفّز على التعلم الذاتي، وتُنمّي المهارات العقلية والرقمية التي يحتاجها إنسان القرن الحادي والعشرين. التعليم المدمج، بهذا المعنى، ليس أداة تقنية، بل مشروع تربوي يفتح آفاقًا جديدة لإعادة تعريف العملية التعليمية ذاتها.

لكن، ومع الإقرار التام بأهمية هذا الأنموذج وجدواه، تبرز الحاجة إلى وعي دقيق بحدود تطبيقه، وخصوصًا فيما يتعلق بالمراحل العمرية المبكرة، وتحديدًا الصفوف الأولية (أول، ثاني، ثالث ابتدائي). فالمتعلم في هذه المرحلة لا يزال في طور التكوين الأساسي، سواء في مهارات القراءة والكتابة أو في العمليات الحسابية الأولية، وهي مهارات تحتاج إلى بناء مباشر ومكثف داخل البيئة الصفية، من خلال المتابعة اليومية، والتفاعل الحي، والتصحيح الفوري، والتشجيع الفردي، وهو ما يصعب تحقيقه عبر الوسائط الرقمية.

وقد شهدنا مثالًا واضحًا على ذلك في تجربة التعليم خلال جائحة كورونا، حين اضطر الجميع إلى الانتقال المفاجئ نحو التعليم عن بُعد، دون تمهيد أو تدرّج. فالكثير من أبنائنا الذين بدأوا تعليمهم في تلك الفترة لا يزالون حتى اليوم، وقد بلغ بعضهم المرحلة المتوسطة، يعانون من ضعف ملحوظ في مهارات القراءة والكتابة. هذا الإخفاق التأسيسي الذي وقع في سنوات التكوين الأولى ألقى بظلاله على مسيرتهم التعليمية لاحقًا، وارتد أثره على مستوياتهم التحصيلية بشكل عام، إذ إن المهارات الأساسية التي لم تُبْنَ على نحو سليم صارت عائقًا أمام الفهم، والتحليل، ومتابعة المحتوى الأكاديمي الأكثر تعقيدًا.

فالأطفال في هذه المرحلة لا يتعلمون المهارات الأكاديمية فقط، بل يكتسبون من خلال المدرسة أولى خبراتهم الاجتماعية والنفسية، يتعلمون الانضباط، والتعاون، واحترام النظام، ويبدأون في بناء هويتهم التعليمية والعاطفية. كل هذا يحتاج إلى بيئة واقعية، حقيقية، قريبة، فيها المعلم لا يوجه فحسب، بل يرافق، ويلاحظ، ويتدخل لحظة بلحظة.

ومن هنا، فإن تطبيق التعليم المدمج يجب أن يُنظر إليه باعتباره مرحلة متقدمة من العملية التعليمية، تُفَعَّل بعد أن يُستكمل التأسيس القاعدي في الصفوف الأولية. فبمجرد أن يُتقن الطالب مهاراته الأساسية، ويكتسب بعض الاستقلالية في التعلم، يصبح مهيأً للانتقال إلى نمط أكثر مرونة، يُمكّنه من إدارة تعلمه، والتفاعل مع أدواته، واستكشاف معرفته الذاتية.

إننا لا نرفض التعليم المدمج في مراحله المبكرة بدافع الخوف من التجديد، بل نُؤجله حرصًا على التأسيس المتين. نؤمن به كمشروع استراتيجي، شرط أن يُطبق في وقته المناسب، بعد الصفوف الأولية، حين يكون الطالب قد بنى أدواته الأولية، وبدأ يخطو بثقة نحو التعلم المستقل.

في المحصلة، فإن التعليم المدمج هو مستقبل التعليم، لكنه لا يمكن أن يُختزل إلى مجرد قرار إداري أو توجه تقني، بل لا بد أن يُبنى على رؤية تربوية متكاملة تُراعي خصائص كل مرحلة عمرية، وتُوازن بين الطموح التكنولوجي والحاجة التربوية الملحة. هكذا فقط، يمكن لهذا الأنموذج أن يكون جسرًا حقيقيًا بين الواقع والمستقبل، بين المدرسة التقليدية ومدرسة الغد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى